.

.

.

.

4‏/3‏/2017

" همزةٌ خضراء " .. الشاعر محمود صالح .


 انفصاميّة النَّص " بين مدارات الشاعر ومسابير الناقد "


انفصاميّة النَّص
" بين مدارات الشاعر ومسابير الناقد "
والشّكر موصولٌ هنا إلى كلٍّ من :
* الأديبة والناقدة .... Dr-Nawal M Saif
* الشاعر والأديب والناقد Rafat Albujairami
* الشاعر ... عماد الكبيسي
* الفنّان .... فيصل سنان
*

" همزةٌ خضراء "
أفاكهةٌ بالضَّوء 
قلبي مُعَلَّلُ
وذاكَ شتاءٌ 
والمَصِيفُ مُؤجَّلُ
فليتَ سؤالَ الغيمِ
في إثرها اقتفى
ظلالًا 
على أقدامها تتسوَّلُ
على كتِف الُّلقيا 
تُربِّتُ مُهجتي
فكيفَ على مسرايَ
طيرٌ مُكبَّلُ ؟!
ولي همزةٌ خضراءُ 
أضْرَمْتُ قلبهَا
وصالاً 
وفي كلِّ النِّهاياتِ مِنجلُ
فلا تَعقدي 
فوق السُّطور حواجبًا
أعزَّ على العشَّاقِ 
حرفٌ مُهلَّلُ؟!
دعيهِ 
يزمُّ الشِّعرُ خلفي شفاهَهُ
ففي هُدْبكِ البسَّامِ
وعدٌ مُكحَّلُ
تقولينَ لي 
تلك الصَّباحاتُ طفلةٌ
بلا أذرعٍ 
تأتي إليَّ وترحلُ
وأنتَ ..
بأضلاع الوداع تضمُّني
أليس لأبناءِ المواعيد
أرجُلُ ؟!
بلى
ألفُ شوقٍ 
للبدايات في دمي
وما رفَّ 
في حِضن المسافاتِ بُلبُلُ
وكم وردةٍ 
أيقظتُ في مُقَلةِ النَّوى
وما فاحَ في ليلِ الغريبِ 
قُرُنْفُلُ
أنا طعنةُ الأشعارِ 
فلْيولَدِ الهوى
ففي سُرَّة الأسرارِ
سرْوٌ وسُنبلُ

" أناقة الغياب "
**************
إذا كانت فرائدُ اللُّغةِ الشِّعريَّة المِـزهرَ الذي يُـزهرُ النّارَ ويُوقدُها للقارئ جـذبًا مُطَّـرِدًا وفاعِلِـيَّةً مُفعَمةً بحسِّ الابتكار وفـنِّـيَّتهِ العاليةِ وتشكـيلاته المُتـفرِّدة ، فلأنها يقينًا تـرفـضُ أن تبقى حبيسةً لجـمالها المسفـوح وأيقونةً لسفوح قِـممها ، ثـمَّة لغةٌ مهما احْـلَوْلكتْ أفـلاكُها تـأبى انغـلاقَ دائرتِها إلّا على تـنـوُّع جماليَّاتها وتـداعـياتِ دلالاتِها ، ذاك أنَّها بهالةِ أهِـلَّـتِها لحظةُ العُمرِ الإبـداعـيَّةُ وليست عُـمـرَ اللَّحظةِ العابرة.
ومـا الكـتابةُ الخلَّاقةُ وأفـياضُها الـمُترَعةُ بالأمـاريعِ ، والـمُؤتَزِرةُ بنظيمِ الجُـمانِ الأليقِ ، سـوى تلكَ الأشجـارِ العملاقةِ التي تبحثُ عـن حطَّابها ليحتطبَ جُـذورَ عُـمقها وجُذوعَ مُغايرتها وأغصانَ دهشتها ، فهي في مكانٍ 
ما تُحبُّ جـذوةَ حـرائـقها ، وتعشقُ مقـادحَ الشَّـرارةِ التي أضرمـتْ شُـعلةَ ولادتـها ، فالشُّـعراءُ أبناءُ المـرايا ومشاكي غُيوثها ، لا يتوقَّفونَ أمام ما يتمَرْأى بقدر ما يعبرونَ إلى أصـداءِ مـا يتجلَّى .
.
" كينونةُ العنوان وعوالمُهُ الصّادمة "
.....................................
في قصيدتهِ " همزةٌ خضراء " ، يأسـرُكَ العـنوانُ بـزَمْـزَمةِ مُزْنه ، ونـمير مـنابعه ، وانبجاسـه كائـنًا مُتناسـلًا وانبثاقه كـونًا زاخرًا بالخََلـق وزَخْم الإثـارةِ والتنوير ، فالهمـزةُ المُغْدَودِقةُ الخـارجـةُ من أقصى الحَلق ، وقـد اصَّاعَـدتْ بسامق بُروقها واسَّـاقطتْ بساقِ أمطارها حاملةً في رِحْـمِها مُكابـدةَ الـبداياتِ الأولى للـنُّشوء ، تشي بعظيم مُعانـاةِ الشَّـاعر وعميقها ، وما تلك سـوى هَـتونِ إشـارةٍ اسـتباقـيَّةٍ ، تكشفُ عـن ملامـحِ الـنَّصِّ الجماليةِ وجوهرِ مكنوناته ، فكيف لا تخْضَرُّ تلكَ الهمزةُ وتُـزهرُ تباريحُ وجْدِها ، وهي التي جسَّـدتْ بحَركـيَّةِ خَوالجـِها المُتـناميةِ ، كُـلَّ تلكَ الأضواءِ الأرجُـوانـيَّةِ المُدجَّجةِ بمِشعاعِ الـوجع ومِجسَّـاته ، مُحـقِّـقةً الاسـتجابةَ الشُّعوريَّة وبُلوغَ الذُّروةِ الإبداعيَّة من خـلال أعذاقٍ شعريِّةٍ مشبوبةٍ ، أفضتْ إلى أفُقٍ تأمُّليٍّ مفتوح ٍ على ثراءِ الدَّلالات .
.
" أنسجة الألفاظ ومُنعرجاتها النفسيّة "
....................................
استهلَّ الشَّاعرُ قصيدتَهُ ، بارتدائهِ ثوبًا ثَخينًا من التَّساؤلِ القادرٍِ على ترسيمِ وطنِ الرُّؤى ، وتأطيرِ المُنعرجاتِ النفسيَّةِ عبرَ تحشيدٍ لوميضِ الرَّمزِ ومـا رافقَهُ من انزيـاحاتٍ استـقطبتْ أبعـادَ الصُّـورةِ وآلفتْ بينَ مُـفارقـاتِ التَّشكيلِ الـكتـابيِّ وتناقـضاتِ أواصرِه ، فالشَّاعرُ يُعلِّـلُ قلبَهُ بفاكهةِ الضَّوء :
" أفاكهةٌ بـالضوء قلبي مُعلَّلُ 
وذاك شتاءٌ والمصيف مُؤجَّلُ "
تلكَ الفاكهةُ المُشتهاةُ مَظانُّ المَـراقي ، ورُقْـيَةٌ من غـير راقٍ ، وأريـاقٌ بلا تِـرياق ، والوليمةُ المُخاتلةُ التي ما أولَمتْ نِعمةً إلَّا على أسِـنَّة السِّنين ، وذاك ضوءُهُ المُسجَّى ينثـالُ ناحِـلًا شـاحِـبًا بأمـداءٍ ظِـماءٍ بـلا إرواء ، مـا بشَّـرَتهُ سـوى بـزمـنِ الغُـربةِ وزمهـريرِ شـتاءاتِهِ ، بينما المصيفُ الريَّـانُ إيناسـًا والـذي انطوى على الإقـامةِ الجَذْلى ومـراتِع الـنُّعْـمى ، فهو سـياحةٌ مُـؤجَّـلةٌ إلّا من حرارةِ الصَّيـفِ اللاهبـة والصَّحـارى اللافحـة بالـنَّـفي والاستلاب .
هُـنا تتجلَّى دِقَّـةُ الألـفاظِ وقُـدرتُها الإيحائـيَّةُ ، فـلفـظُ " المصيف " الخضيبُ أدَّى الغايةَ المـنشودةَ الـقائمةَ على بناءِ المقابلاتِ والمتضادَّاتِ الثنائيَّة وما كان لـفظُ " الصيف " الجـديبُ سيؤدّي المعنى المُـرادَ بدلالاته الكلـيَّةِ التي نـشَدها الشَّـاعـرُ وأفـردَ لها أجـنَّةَ جَناه ، فالـمعنى هُـنا كان سيـبقى مُجتزءًا عاجـزًا عـن تـشكـيلِ جـمالـيَّـةِ الـصُّـورةِ وامـتلاكِ نـاصِيَتِـهـا ، بـيـنـمـا " الـمـصيـفُ الـمُـؤجَّـلُ " الــذي تـمَّ اسـتـدعـاؤهُ الخُـلَّـبـيُّ لـتـصويـرِ الأصداءِ الاغـترابيَّةِ من ضحالةِ الطَّريق وضآلـةِ الوصول ، فـقـد مهَّـدَ لهُ بلفظـتَي " الـفاكهة " و " الضوء " اللتين تعـكسانِ صفـاءَ اللحظةِ المأمـولةِ ورُواءَ عشــيَّاتِها ، فلا تتسامى ألـفةُ العـلاقات اللغـويَّةِ إلا في اشـتباك تـكويـنِها وابتـكـارِ بكـارتِـها الأُولـى الـمُـتَّـكـئـةِ عـلى الـحِــيـاكـةِ الـمُـفـاجـئـةِ لـنسـيـج الـمُـفـرداتِ وأصـوافِ الـمـعـانـي ومَـصابيحِهـما الظِّـلِّـيلة .
.
" مشهديّة النص وتواشج بُنيته "
...............................
ثـمَّةَ تَـواشـجٌ وتـرابـطٌ نسَـقيٌّ يُحْـكِمُ بُـنْـيَةَ الـنَّـص ، ويشـدُّهُ بخـيـطٍ رؤيـويٍّ شـفـيفٍ ، يُـفـضي إلى الـوحـدتـيـنِ العُـضـويـَّة والموضوعـيَّة ، ويُحيلنا إلى أساكيـبِ المشهديَّةِ الـنَّازفة ، وأكـوامِ الأسـى وقِـبابه ، عـبـرَ تصويـرِ غُـصَصِ الشَّـاعرِ الوجـوديَّـة ومصيرِهِ المـأزوم ، فـلا تتوهَّـجُ عَـرَامةُ الـمَشاعرِ في سـيرورةُ الـنَّص إلّا بهما ولا تنسجمُ الأنسـاقُ الـدَّاخليةُ وتتوافقُ أنسجةُ الصُّورِ والأخْيِلة دونَ إيقاعهما ، فهما هذَيانُ القصيدةِ المحمومةِ ولُـثغةُ هـمزتِها الخضراء وبارقُ سُـؤالها في حوصلةِ الغيمِ الذي فقد نداوتَهُ وطـراوتَهُ ، وما اقـتـفـتْ بوصلتُهُ العـمياءُ سـوى حـصادِ الـفِـقْـدِ وحُـداءِ الـفيافي الموات ، وما حـملتْ إجـابتُـهُ العـرجاءُ سـوى نُكُوص الـرَّجاءِ وقـد تبتَّلتْ بتائلُهُ وتسوَّلتْ ظِلالُهُ على أقدام خِصبٍ لا تجيء :
" فليتَ سُؤالَ الغيم في إثرها اقتفى
ظـــلالًا عـلى أقـدامـهـا تـتـسـوَّلُ "
.
" التشكيل التناظري وشبكيّة الصورة "
.....................................
ينزعُ الشَّاعرُ إلى إيماءةِ اللغةِ وتكثيفها ، وتفكيكِ بُنيةِ الصُّورِ التقـليديةِ الـمُحْـدودبة ، لـرَتْقِ فـتْـقِها ، وإعلاءِ خفيضِ صوتِها ، وإعـادة تـركيبها في قـامةِ السـياقات الحـداثيَّةِ المُباغتة ، مُستفزَّا القـارئَ بأطوار اللَّامُنتظر وأطوائـه ، مانحًا المُتلـقِّي حُـريَّـةَ التطوافِ في معارجَ إيحـائـيَّةٍ غـزيرةٍ تُـزري بالـتـوليفاتِ الكتابيةِ النمطـيَّةِ المُسـتهلكة ، وتنـأى بنواتـئها المُشْجِـرة عـن اجـتـرارِ المعـاني المُتـناولَة ورتـابةِ تـوظـيفـها وتكـلُّسِ أسلوبها لتُؤصِّلَ اخـتلافَها السَّـنِيَّ وجـِدَّةَ عالـمِها البـرزخيِّ وطـاقاتِه الإبـداعـيَّةِ المُـتجدِّدة وإيقاعاتِهِ المُتناغمةِ القائمةِ على أُسِّ الـتناظُـرِ التفاعُليِّ بينَ الحِسِّيِّ والمجـرَّد ، والقـادرةِ على استـيعابِ الموازنةِ بينَ فـوَرَانِِ انـفعالاتِ الشَّـاعرِ ، ووعـيهِ العـميقِ في تشكيلِ شـبكيَّةِ الصُّورة وأغشـيتها العـصبيّةِ المُسـتقبلة ماورائـيَّـاتِ المرئـيَّات هناكَ حيثُ ينداحُ نداءُ الشِّعرِ في تجلِّياتِهِ العُليا :
" على كتِف اللُّقيا تُربِّتُ مُهجتي 
فكيفَ على مسرايَ طيرٌ مُكبَّلُ "
فها هي " الكتفُ " المُجرَّحةُ بلفظها الحِسِّيِّ تتلقَّاهُ " اللُّقيا " المُيَتَّمَةُ بلفظها المجرَّدِ وكذا شأنُ " المُهج " الثَّكالى في تربيتها الحنينيِّ على هـذهِ الكتـفِ مُتجاوزةً اليَدَ الشَّلَّاءَ في علاقتها الحِسِّـيَّةِ لترقى إلى ترسيخِ علاقةٍ معنويةٍ استأثرتْ بحيازةٍ جماليةٍ عميقةِ الجُذور ، وتتَّسعُ مساحةُ الرُّؤِيةِ وحُريَّةُ فضاءاتها بالمساءلةِ المِفتاحيَّةِ التي فضَّتْ مغاليقَ القصيدةِ ومضائـقَها ، واشتغـلتْ على توثيقِ الارتـباطِ بينَ " اللُّقيا " و " المَسْرى " و " الطيرِ المُكـبَّل" ليتـأتـَّى لنا الـوُلـوجُ إلى مـداراتِ مِـدرارةٍ من الـتَّـشكيلِ التكافـؤيِّ التكـامليِّ التي وحَّـدتْ بين أجـزاءِ الـصُّورةِ ونجحتْ في تقـديمِ جوهرِ المعنى المكـتَنِـزِ بالحـيويَّـةِ ورحـابةِ الاستـشفـاف ، فاللُّـقيا التي تـتلهَّـفُ إلـيها الـمُهَـجُ العاشـقةُ يغـمرُها الـغـيابُ ، وطـائـرُ الـشَّـوقِ على مُـديَـةِ الـمَدى جـاثمٌ ، وفـوقَ حنظـلِ الـنَّوى حائمٌ ، مُـكـتَّـفٌ بالـمنافي ولكنَّهُ قـادمٌ ، لا أكتافَ لمسرَّته وها هو قـادمٌ ، .. يا طائري المُعنَّى .. يا أنا العائـدُ.. يا أجملَ السُّـراةِ وسطَ شقوةِ العَدَم ، وجَـذوةِ الألم.. ولا أرضَ لمسراكَ سوى أرضٍ مكلومةٍ من نُثارِ الكلماتِ تشيخُ في غُبارِها وتصطلي بجـِمارِها على أمـلٍ ، فـثـمَّةَ مـواعيدُ تغشَّـاها الليلُ وما تـزالُ تُسامـرُ انتظارَها وتمدُّ ليلكَها إلى نوافذِ الفجرِ ولا تنام .
.
" الألسنة اللُّغوية واستنطاق المعاني الظلِّيلة "
.........................................
للشَّاعرِ " هـمزتُـهُ الخضراءُ " التي تعتَّـقـتْ بوجـيعِ الإنسـانيَّةِ وتـرجيعِ آهـاتِـها ، واعتنـقـتْ ينيعَ القـيَمِ اللُّغويَّـةِ وأضـرمتْ أوصالَ الصَّهـيـلِ ونجـيعَ الوصالِ وما وقـفـتْ على تمامِ الوصول ، وهي التي فـاضَ شـوقُـها إليه فـذبذباتُ أثيـرِها تُـؤثِـرُ البـثَّ في الأصقـاعِ الـنَّائيةِ وفي غـيرِ اتِّجـاهٍ تـاركةً إرعاشَ الصَّقـيعِ لـقـارئٍ لا يمتـلكُ صُـواعَ مُـلكِها ولا يتـرهَّـبُ في صومعةِ ملـكُوتِـها ، لعـمري تلكَ هـمـزةُ البدايـاتِ وبشـائرُ الهُـطولِ ووصايا الشُّـهداءِ في إصـرارِها على مُـصـادرةِ مقـاصل الـنِّهايـاتِ ، تلـكَ أصابـعُ بُـروقِـها وأكـفُّ أمطـارها الـمُهـيَّأةُ للانـقـلابِ الغَـضوبِ على منـاجـلِ الصَّـباحـاتِ والـنَّـدى ، هـنا ثـمَّةَ هـمـزةٌ تُـومئُ بالـماءِ ، وتـستسقي الغرقَ وتسـتنطقُ الظِّـلالَ ، ولا تمدُّ ألسنتها للضَّبابِ والسَّراب :
" ولي همزةٌ خضراءُ أضرمتُ قلبَها 
وصـالًا وفي كُـلِّ النِّهايـات مِـنجـل ُ "
.
" منهجيَّةُ الشَّاعر وأقانيمُهُ الشِّعرية :
...................................
سُـلافـةُ الـقـولِ ، إنَّ للشَّـاعـرِ في هـمـزتهِ مَنهجـًا شِـعـريَّـًا وفلسفةً فنِّـيَّةً تـرتكـزُ في كينونتهِا على قِـيَمٍ ثلاث : 
أولاها : قِيَمُ الإنسانِ وقـلقُهُ الوجوديُّ . 
ثـانـيهـا : حـضـارةُ الـلُّغـةِ وقِـيَـمُـهـا .
وهاتانِ الرَّكيزتانِ قد سبقتْ الإشارةُ إليهما والتنويهُ بهما .
ثالثها : قِـيمُ العشقِ والانتماءِ للوطنِ .
تلكَ القيمُ الانتمائـيَّةُ التي انتصرتْ الهمزةُ لها ، وأنابتْ إليها ، وكانت خيرَ مُؤتمنٍ عليها ، فهي للوطنِ ناموسُهُ ونِبراسُهُ ، وحُشاشةُ مآذنِـهِ ، وذاكـرةُ أجـراسِهِ التي طالما يـمَّـمَ الشَّـاعرُ أقـداسَها ونذرَ روحَهُ في سبيلِها وحبَّـرَ دمَـهُ فِـداءَها ، وهي التي طالما ناغتْ جراحَهُ وأغـرَتْهُ بالـقـيامةِ واستدرجَتهُ بقدِّها القُدْسيِّ ليُسدلَ شالاتِ شوقِهِ على محاريـبها الـمُـبـاركة ومـفاتـن طُهـرِها المستـعـصيةِ ، وأوصَتـهُ بـاعـتـناق أوصابِـها ، وعِـناقِ أعـصابِها وحـثَّـتْهُ على الأوبةِ إلى أحضانِها بمُسمَّـياتٍ جـمالـيَّـةٍ أُخـرى ومعـانٍ عِشـقِـيَّةٍ جـديـدةٍ ، فـذاكَ جُـنـونُ الشَّـاعرِ الـذي يُمارسُ طـقوسَ هواهُ في غـابـاتِ المخيِّـلةِ الصَّـامتةِ ، هُـناك حيثُ تـرشـفُ طُـيورُ رؤاهُ بواكيـرَ الصُّور الرَّهيفة ، وتنقرُ حبَّاتِ المعاني الخبيئة .
.
" بواطنُ الفكرة ومنسوبُها الجماليُّ "
...................................
تجترحُ اللُّغةُ الشِّعريةُ آفاقَها العصيَّةَ مُحتفيةً بشواهِق منسوبِها الجماليِّ ودوافقِه من خلال عُكوفها على تدبُّراتٍ فنيَّةٍ قصيَّة المناحي ، ذاك أنَّ الشَّـاعرَ يستـقطرُ تجربتَهُ الرُّوحيَّةَ وإرثَهُ الثَّقافيَّ من خلال سبرِهِ لأغوارِ الحواسِّ الشِّعريَّة ، ساعيًا لتجذير مواقفَ إنسانيَّةٍ ساميةٍ في تُربةٍ بِكْرٍ غيرِ موطوءةٍ .
من هـذا المُنطلق ، يعمدُ الشَّـاعر إلى مُعالجـةِ بواطـنِ الفـكرة وقـيعانِـها ، ولا يلتمِسُ ظـاهرَ لمَعانِها ، فهو لا يسـتجدي العُـبـورَ إلى المعاني الـنَّاجزة ، ولا يرتجي ثمارًا ناضجةً بعيدةً عن حُـقـولِه الشُّـعوريَّة ، فها هُـوَ في موجةٍ ميَّاسةٍ بين مَـدٍّ وجَـزْرٍ يُعـمِّـدُ شـواطئ الشِّـعرِ التي زمَّـتْ شـفاهَ البيـانِ في وجـهِ اليـراع وكـتمَتْ أنفاسَ النفائسِ الإبـداعِـيَّةَ في رئةِ القصيدةِ ، ليعودَ وحيُها وضَّاءً بـاسمًا يشـدُّ نيـازكَ الكـلام بأهــدابِ الأرضِ الكحيلة ولِحاظِ سُـنبلتها الحـانية التي تستميل الشَّـمس لـتقبيلِ خـدِّ الـرِّمـال الأسـيل مـاسحةً عنهُ دمعةَ الأسـى والاشـتياق فـوحـدها سـنابـلُ الأرض تُشـذِّبُ سـنـديـانـةَ الـشِّـعـرِ من عُـبُوس الأغـصانِ ويـباسـها ، فـلا يتـقـدَّمُ الشِّـعـرُ إلَّا بمُتـلازمِه ، والشِّعرُ والأرض في شـريعة شـاعـرِنا تـوءَمانِ مُتـلازمان لا تنـفـكُّ بينهُما عُـرى المحبَّةِ والـوِئامِ ولا تَـعـروهُما جـفوةٌ وخِـصام ففي مخـاض القصيدةِ وآلامِ طَلْـقِها تحلو ولادةُ الوطـن ، وعلى تُـرابهِ المُقـدَّس يشبُّ جيلٌ من القصائدِ العصماء أحدهُما يتخـفَّى في زُرقةِ الآخر ولا تُخفَى السَّماء .
" دعيهِ يزُمُّ الشِّعرُ خلفي شفاهَهُ
ففي هُدبِكِ البسَّامِ وعدٌ مُكحَّـلُ " 
.
" الحواريةُ الوجدانيَّةُ وفضاؤها الرَّمزيُّ "
........................................
إنَّ للقصيدةِ أصواءً ومناراتٍ ذلَّلتْ وُعُورةَ المسالكِ التأويلـيَّة ، ومهدَّتْ لحـواريَّةٍ وجـدانـيَّةٍ انسلكتْ في الـنَّصِّ انسلاكَ الخيطِ في الإبرةِ ووسَمَتْ بمطـرِها الوَسْمِيِّ أنفاقَ الحالةِ النَّفسيَّةِ ومتاهاتِها الكئيبةِ ، فذاك ديـدَنُ الشَّاعرِ السَّاعي إلى تجديدِ لبُوسِهِ الشِّعريِّ ، وتجويدِ أدواتِهِ الفنيَّةِ مُتجاوزًا مِطواعَ المعنى ومسكوكَهُ إلى معنى المعنى وألوانِ طيفِه المُـتَّـشِحةِ بالرَّمزِ والموشَّاةِ بالمجاز.
يبتدرُ الشَّاعرُ حوارَهُ ببذر نَواةِ الحكايةِ التي استحوذت على مجامع الجَوى والشُّجون ، فمن يكبحُ جِـماحَ القلبِ الذي يتيهُ مُغتـرًَّا بأغـمارِ الحُزنِ وغِلَّاتِهِ وسطَ تيهِ الصَّباحـاتِ المُنْدَسَّـةِ في اليباب ، والتي تقرَّحتْ خُطاها على الـدُّروبِ الحصباءِ في أقاصي الغياب ، مَن لصريـخِ أذرعِـها المُـقطَّعة بـلا ضريح ، من لتجاعيدِ الصَّدى في الهزيع الأخير ؟!!! .
هُـنا تلتـئمُ الصُّورةُ الصَّادمةُ الـتي افـتـرعَتْ عوالمهَا المُـتواريةَ خـلفَ أُوار الألفاظ وإهابِ ذاكـرتِها الـمُلتاعةِ بتشظِّياتِ شعبٍ جاثٍ على شُواظِ النَّارِ وتنهيداتِ وطنٍ ثاوٍ وسطَ هبَّاتِ الـلَّهيب ، فذاك صوتُ الأرضِ الجريح وهو يبحثُ عن طفلةِ الصَّباحـاتِ الموءودِة ولا يني يهمسُ في أُذُنِـها الصَّلماء مُتوسِّـدًا مبتورَ ذراعِها ، وذاكَ نشيجُ أمومتها ، ومنسيَّاتُ مناسِـكِها ، وهي تُلـقِّـمُ اللَّيلَ جوعَ أطفالِها ، وتُرضِعُهُ أثداءَ صبرها ، وما من كُوىً لثُغاء نُور ، إنْ هي إلَّا بـراعـمُ السَّـنا الذَّابلةُ ، وتـرحلُ قبل أن تجيءَ ، إذْ كيف تُرفَعُ أعـمدةُ الـفجـرِ بالعكاكيزِ الضَّـريـرةِ ، وكيف تصدحُ الصَّـباحـاتُ بـلا قِـيامة ؟! لا تقولي ومواقِـدي البـردُ ، بمجامر العشقِ تعال لنمنحَ طفلةَ الصبَّاحـاتِ عُمـرَها ودفءَ الوصال ، لا تقولي تعـال ، فـليس بأعـطاف القـصائد تُسْـتَعطَـفُ العـواصفُ وتُلوَى أعنَّةُ الرُّعـودِ والجبـال ، يا لَـزُوَّادةِ الـزَّاهد التي تـتضوَّرُ جُـوعًا بلا ابتهال ، يا لَأمطـار الشُّـهـداءِ التي أيقظتْ ذاتَ وعـدٍ طـريـقَ الجُلْجُـلَةِ في ضميـر الكـلمات ، مَـن لها ! مَن لها ! فـماذا يقولُ الشَّـاعـرُ لـلأرض وبماذا يُبشِّــر الشُّهـداء ، وطفـلةُ صباحـاتهم بِلا صباحٍ وأذرعٍ وعُـيـون ، وأجـملُ الشُّـعراء من بسمةِ الشُّهداء وأحلامِهمْ يُولدون .
" تقولينَ لي تلكَ الصَّباحاتُ طفلةٌ
بـلا أذرعٍ تـأتي إلـيَّ وتـرحـلُ " 
.
" تمويهُ الدَّال وإشكاليَّاتهُ الدراميَّة "
....................................
يتمحورُ هاجسُ الشَّاعر في تمويهِ الـدَّالِّ وإضمارِهِ ، تاركًا للمُتلـقِّي تفحُّـصَ بصماتِ مـدلـولاتِه ، وتـقصِّي آثـارِ تضوُّعاتِه ، وإعمالَ فكرِهِ وراداراتِه الاستشعاريَّة للوقوفِ على كُنْهِ أسرارِه ، فسويَّةُُ المعنى وبهاؤهُ في اتَّساقِـهِ والـتصاقِـهِ بنقيضهِ ، فالشَّـاعرُ هنا يبحثُ عن المُتخـيَّـلِ في خِـمارِ الأخـيلةِ وخمائلِها ، مُغتبقًا مُغترباتِ مُناخاتِها ولا ينجذبُ إلى أقطاب مُقترباتِها ، ولا يرتفقُ على المُصْمَتِ المُتصدِّع من تهويماتها ، ولا يستريحُ إلى سكون مُومياءاتها . 
تلك المُخيِّـلةُ تُمثِّـلُ قلقَ الشَّاعر وما يتجرَّعُهُ من نُغَبِ الغرقٍ ، وما يعْتَوِرُهُ من حشْرَجةِ الاخـتناق ، فهي تصدُرُ عن حساسـيَّات اللحظة المُتشـظِّية تحت وطـأةِ إشـكالـيَّات الـواقع المُثخَـن بالجـراح وتشـعُّـباتِ مآسيه ، فللـوداع أضلاعٌ تُعرِّشُ بدالياتِ الوُلوع ! وللمواعيـدِ أرجُـلٌ من قصَبِ الـرِّيح ، وأبنـاءٌ من مكاحـلِ اللَّـيل ، ولا أهـدابَ تسخو بدمعةٍ تضوع ! تلكَ مُفـارقـةٌ زاوجـتْ بين اليأسِ والأمـل ، بيـن الـموتِ والـولادة ، بين اجـتـثـاثِ وطـنٍ وانبعـاثِ أُمَّـة ، هـكذا يُـراودُ الشَّاعرُ أورادَ القـصـيدةِ ويرتدي وريدَها ، هكذا بفـواصلِ الحنين يغزو مفاصلها وبنقاط الأنين يغزِلُ غُـزلانَها ، فتلـك المواعيـدُ الضَّالَّـةُ وإنْ ضاقـتْ بها السُّـبُلُ وتغشَّـتهـا السُّـيـول ، وعجِـفـتْ سـنابلُها وجفَّتْ في حلْقِها الحُقول ، لا يعشقُ قلبُها .. سوى زيتونةِ الدَّار .
" وأنتَ بأضلاعِ الوداعِ تضمُّني
أليسَ لأبنـاءِ المواعـيـدِ أرجُـلُ " 
.
" المساحاتُ البيضاءُ وترشُّحاتُ مدلولاتِها
.........................................
لم يَعُد الطُّموحُ الشِّعـريُّ لدى الشَّاعرِ ينطلقُ من تشظِّي الـنَّص وإنَّما من اهـتـزازاتِ تفجُّـرِهِ وأصداءِ تشـظِّياتِهِ تلكَ دعـوةٌ للاسـترشادِ بشَـذَراتِ الإشـاراتِ لتشـييدِ أمكـنةِ الـنَّـص المنكوبـةِ ، والانعتـاق من أزمنتهِ المزمومـة تلكَ لغـةٌ تـنـفـلتُ مـدلـولاتُـها مـن عِـقـال سـياقـاتِـها الأُحـاديَّـةِ وأنسـاقِـها البلُّـوريَّـةِ وتـتَّسـعُ مسـاحـاتُها البيضاءُ لاسـتعصاءِ القبض على تمظهُراتِـها الجـمالـيَّـة ، ولصعـوبـةِ اســتيحاءِ ألـوانِ طيـفِـها ، وارتشـافِ تـرشُّـحـاتِهِا الزئبقـيَّة ، فإذا كـانـت الـكـتابـةُ الشِّـعـريَّةُ رسـالةً ، والشَّـاعرُ رسـولَهـا ، فـلا ضيـرَ أنْ تـكونَ تلكَ المسـاحـاتُ البـيضـاءُ لـوحـةَ الطُُّهـرِ والـقـداسـةِ الخـالـيـةَ مـن الـشَّـوائـبِ والـتشـوُّهـاتِ والمُنـزَّهـةَ كُـلَّ التـنـزيـهِ عن حمأةِ الدَّنَس .
والشَّـاعـرُ هُـنـا لا يحـوزُ سُـرَّةَ السُّـؤالِ وأسـرارَهُ ولا يفـوزُ بمسـرَّةِ الإجـابـة وأعسـالِهـا ، وفي كِـلا الأمـريـن يُحاصَـرُ بين وتينِ اليقينِ وشـرايينِ القلق ، بلى لأبناء المواعيـدِ أرجُلٌ ، بلى ألفُ شوقٍ في دماهُ ، إذْ طالما لوَّحَ للموجِ بأشرعةِ القصيدةِ المُمزَّقـة ، واسـتنقـذَ بأجنحةِ فراشاتِها الغـرقَ ، وهو الـذي لا يرومُ من القصيدةِ سوى أصـابعِها المُعبَّـأةِ بالقبابِ والصَّوامع التي قصَّتها الـرِّيـاحُ لتُـقاصصَ أكُـفَّ الضَّراعـةِ والعبـادة ، فكيف تَـرفُّ بلابـلُ الشَّـوقِ بأجـنحة الـولادة ، وكيف ترفو عـتباتِ العبق ، وهي المُبلَّـلةُ بأواخـرِ الـرَّمق ، والمُبتلاةُ بمحاجرِ الغَسَق ، وكلُّ المسافاتِ فِخاخٌ ، وكلُّ الأشجارِ أغصانُها رماح ؟! .
لم تكن القصيدةُ اللحظةَ البتـولَ التي أغـمضَ الشِّـعرُ عـينيهِ عـنها ، ولم تكُـنْ نُجـيماتِ لحظتِهِ التي فـتـحَ عـينيهِ عـليها ، كانَ على القصيدةِ أن تسمُلَ عينيها وهي تسيرُ حافيةً بأسـمالِها الباليةِ وسط أناقةِ حرائقِها وعراقةِ حُزنِ البلاد .
" بلى ألفُ شوقٍ للبدايات في دمي
وما رفَّ في حُضن المسافاتِ بُلبُلُ " 
.
" اللُّغةُ الشِّعريَّةُ بين الصَّوت والصَّدى "
......................................
لا حدودَ لسُلْطة اللُّغة الشِّعرية وسطوةِ سُلطانِها ، ويبدو الشاعرُ هنا مُهيَّئا لجفوتِها ، مُستعدَّا أتمَّ الاستعدادِ ليقلبَ لها ظهـرَ المِجَـنِّ ، فهو الأكثرُ استخفافًا بتشـريعاتها الباهتة ، واستهـزاءً بمراسيمِها الواهية ، فها هو بفُـروسيَّةِ فِـراستِهِ يقتحمُ أسـوارَ قـلاعِـها ، مُهشِّمًا هياكلَ ألفاظِها ، مُحـرِقـًا رثَّ أرديتِها ، كيف لا.. ؟! والـنَّصُّ حِـصانُهُ الجـامحُ الذي ينهـبُ أرضَها بسـنابكِه ، ويُلهبُ ممالـكَها بصهيلهِ ، سـالخًا جِـلدهَـا المنسـوخَ بطُفيلـيَّاتِ أعـرافِها وتقاليدهِا ، ولا ينكفئُ عنها إلَّا بنَحْرِ مَعهودهِا ووأْدِ مسـيخِ مولودها ، فلا مناصَ للشاعر سوى تحريرِ الكلماتِ من إرثِ تماثيلِها المُحنَّطة ، ولا خلاصَ لهُ إلّا بتطهيرِها من أوزارِ شـيخوختِها المُتصابيةِ ، ليتسنّى لها المباهاةَ بنفسِها والزهوَّ عليها ، فلِلُّغةِ الشِّعريَّةِ تاريخُها الوفيُّ الذي يرهَنُ مُدَّخراتِ كُنوزِهِ ويُراهِنُ عليها ، كُرمى لرُقيِّ حـاضرِهِا ، ولارتقاءِ مستقبلِهِا ، كـذا الشَّاعرُ الذي يستمدُّ من راهنِ اللَّفظِ وحاضرِ معناهُ غائبَ المعاني وغائـرَ الـدَّلالات ، فشتَّانَ بين مَن يَخضعُ لمشيئةِ اللُّغة وصولجانِها ، ومن يُخضِعُ عُـروشَها لعـرائشِ شُعورهِ وعرائسِ شاعريَّتهِ .
وإذا كان للشاعر صوتُهُ وللشِّعرِ صداهُ ، فلا فرقَ بين وردةٍ هُنا ووردةٍ هُناك ، لا فرقَ بين وردةٍ أيقظَ أكمامَها للـنَّوى ، ووردةٍ أيقظـتْ أحلامَهُ للأسى ، لا .. لا فـرقَ هُنا بين الصَّوتِ والصَّدى ، لا فـرقَ بينَ شـاهدٍ وشـهيدٍ بين الأبيضِ المحروقِ والأسـودِ المشنوقِ ، كـلاهُـما تحكمُهما جـدلـيَّةُ الـوجـودِ ، وتتحكَّمُ بهما عـبثـيَّةُ صِراعِـهِ كلاهُما غـريبانِ على صليب ، بلا بُشـرى ولا فجـرٍ قـريـب ، فأنَّى للقُـرنُفلِ في ظلِّ عالمٍ مُختلٍّ فاقدٍ لتوازنِه أن يفوحَ في ليلِ الغُرباء ، وأنَّى للقُرُنفُلِ في خِضمِّ وجودٍ جاحدٍ لإنسـانيَّتهِ أن يفوحَ في ليلِ الغُرباء ؟! أنَّى لهُ .. أن يفوحَ في ليلِ الغُرباء ؟! ..
" وكم وردةٍ أيقظتُ في مُقَلةِ النَّوى
وما فاحَ في ليلِ الغريبِ قُرُنْفُلُ "
.
" هُلاميَّة اللُّغة وماهيَّتُها المُضلِّـلة
..................................
وحقيقٌ بنا أن نقـولَ ، إنَّهُ دأْبُ الشَّـاعرِ المُبتلى بفتنةِ القصيدة العَـنُود ، ولا سـبيلَ إلى وفْـرة مفاتِنها ، فإنْ مسَّها أصابتهُ بالمسِّ ، وإنْ راودَها راوغـتْهُ ، وإن اقـتفى آثـارَها ثـارتْ عليهِ ، لعمـري ذاكَ ابتلاءُ المُبدع الذي افتَتنَ بروح القصيدةِ ، وما وزَنها إلَّا بما زانَها ، وما امتاحَ منها سوى عظيمِ غـاياتِـها ، وما أضلَّها بشـاعريَّتِهِ ، وما ضلَّلتْهُ بشعريَّتها ، ورُغْمَ ليلِها ، فهو مجنونُها وهي ليلاهُ . 
تلكَ لغةُ الشَّـاعر الهُلاميَّـةُ التي تـوسَّـلتْ بالطعنةِ الـولادةَ وبالشِّـعر القـيامة ، هُـنا خروجُ فـراشاتِ الكلماتِ من شرنقتِها ، وعُـزوفُها عن مُماراةِ مِـرآتِها ، فـإذا كـانت الطعنـةُ صورةَ الغـدرِ الماثـلةَ في الأذهـان ، وإذا كـان الوجـودُ الإنساني سِمتَها الأوّلَ والأخيـرَ منذ بـدءِ الخليقةِ ، فالأولى أن تكونَ تلكَ طعنـةُ المحبَّةِ والقـيم التي تنمُّ عن الرِّسالة السَّامية التي يحملُها رسولُ الشِّعر إلى قلوب المعذَّبين ، هناك حيث لا تكونُ صحوةُ السَّنابل حقيقةً مؤجَّلة ، ولا يكونُ السَّـروُ كسيرَ السُّؤال ، ولا يكون الهوى إلّا سُلَّمًا لسموِّ النَّفس الإنسانيَّة وسلامِها ، تلك هي طعنةُ الشِّـعر التي تُحاكي في ضديَّة قُطبيَّتها قولَ الناقد " كمال أبو ديب " { الشِّعريَّةُ في تناقضاتِها الحادّةِ التي تنسجُ نفسَـها في لُحْمتِـهِ تُمثِّـل مـأسـاةَ الـولادةِ وبهجـةَ الموت } والطعنةُ هُـنا بِـلا طعيـن ، ولا جُـرحَ لها سوى جُرح مِشرطٍ يستنقذُ الجنينَ من غَيابات الموت ، تلك طعنةُ القلم لعرائس الـورق في ثوبِ زِفافهِا القشيب ، تلك طُفُـولةُ البحـر الـذي يخشى الغـرق ، وينفـرُ من حكايـاتِ جَدَّتهِ المجـدولةِ بتنانينِ الماءِ ، تلك أنهـارُ الحَـمام في مـراكـبِ الأطفال ، وليست أنهارَ الحِمام في مراكب القتلة ، تلك طعنةٌ تشطفُ الأيامَ من طفرةِ دمائها ، وتفنحُ قلبَها لقدوم البشائر التي لا تنتظرُ أحدًا ، تلك الطعنةُ أبناؤنا القادمون قبل أن تغتالَهم طعناتُ الحياة .
" أنا طعنةُ الأشعارِ فلْيولَدِ الهوى
ففي سُرَّة الأسرارِ سرْوٌ وسُنبلُ " 
.
وبعدُ ، .. حريٌّ بنا أن نستشفَّ الإبداعَ من منابعِه وإن اعتاصتْ علينا شِعابُه ، ويبقى النصُّ السيَّدَ المُطلقَ بحُكم منـافِـذِهِ المتشعِّـبة ، والشَّـاعرُ الـنَّاقـدُ بإعـناتِ مـوهـبتِهِ الأقـدرُ على الـنَّـفاذِ إلى عـوالمه ، واسـتبطـانِ مجـاهِـلِه وتـوحيد ذاكـرةِ جهاتِـه ، إنَّها المُغامـرة التي لا تنتهي فُصولُها إلّا على حجـر الكتابة ، حيـثُ لا تاريخ للإبداع إلَّا على شـاهدة ، وتحضـرُني هنا مقـولةُ " يـوسف الصَّايغ " : { الشاعر لا ينظر من ثقب الباب إلى القصيدة لكنَّهُ ينظرُ إليها من قلبٍ مثقوب } .
والـنَّصُّ الشعريُّ لا يخشى على عماهُ ، ولكنّهُ يخشى أولئكَ المُبصرينَ الذين لا يُدركون عُمقَ بصيرتِه ، يخشى على سؤال معناه من إجابة اللامعنى ، ذاك أنَّ السُّؤالَ عن المعنى سؤالٌ غير ذي معنى ، إنَّها اللُّغةُ المُنقَّبة في زمن السُّـفور الشِّـعريّ ، والقصيدةُ العظيمةُ هي تلك التي لا يحكمُها نظام ، والتي تزفُّ ورودَها للـرِّيح لتفوحَ بالعواصف ، فمنطقُ الشِّعر يكمنُ في اللامنطق حيثُ تشْـرئبُّ رياض الشِّعر كلُّها إلى فوح زهرةٍ في أقـاصي التُّخوم ، وأجملُ الأنساقِ الشِّعريّة هي تلك التي لا ساقَ لها ، فشتَّان بين إبداعيّة النص وأبجديَّـته . 
تلك ليست همزةٌ خضراء ، تلك همزةٌ تعبرُ بآخر الضوء ولا تستـردُّ أوَّله ، تسـير بالقصيدةِ وقد علَّـقت مشانقَ الأرض في عُنُقها ، مُحرِّرةً أجنحةَ البروق من قبضة الغيوم .
تلك هدايا الهمزة وقد غلَّفتُها بالأوراق الخضراء وزيَّنتُها بشـرائطَ " نيتشه " الذهبيَّة ...              {هـؤلاء الشُـعراء عندهمْ خُيولٌ في عفَّةٍ تصهُل } .
الشاعر / محمود صالح      
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق